البيت في وجداننا الراحة و الأمان – و لكنه أيضًا المركز – و للبعض نقطة الانطلاق .

في نهايات المصراوية نرى اكتمال بيت العمدة و نوراي . و ذلك طبيعي لان اكتمال الوجدان لابد له من مكان يتمثل فيه .

الراحة و الأمان – و بعدهما العز في العمق المتمثل في ثراء على الظاهر - يظهرا في مساحة واسعة ، في اثاث مريح يعبر عن أصحابه ، يظهرا في حديقة جميلة ، و في شارع تحفه الأشجار .

اختيار المكان مهم . البيت في نهايات القاهرة الخديوية و بدايات القاهرة الملكية – و ذلك (كما تحدثنا في المقال السابق من هذه السلسلة) انتقال مهول في جوهر القاهرة .

لكن النقطة المهمة هنا – بعد كل الرحلة الطويلة التي أخذت العمدة من جنوب الدلتا الى القاهرة - هي فكرة المركز . انها نقطة الوصول في المصراوية . النقطة التي يتحول فيها مكان العمدة و بيته (مع نوراي) الى عنوان لشئ معين ، و في المصراوية هذا الشئ هو الوجدان المصري الجديد (المزيج بين العمدة و نوراي) الصاعد في القاهرة الملكية .

هذا ما أراد أسامة أنور عكاشة ان يوصلنا اليه في المصراوية . غايته كانت اكتمال الوجدان المصري في لحظة ولادة مصرية جديدة و ان يتمثل هذا الوجدان الكامل و الجديد (بعد كل هذه الرحلة الطويلة) ليس فقط في العمدة و نوراي ، و لكن أيضًا في مركز جديد ، في بيت جديد .

البيت ، كما قال اجدادنا ، أصل ، بداية سلسال ، عائلة تتكون تأخذ من رحلتي الأب و الأم و تصبح نفسها لحظة بدء . بيت العمدة و نوراي في القاهرة هو ذلك البدء . شجرة جديدة عملاقة ارتوت جذورها من بدايات العمدة – مما أخذه عن امه – ذلك الذي بدأنا منه و عنده في شمال الصعيد و جنوب الدلتا ، و ذلك الذي فهمه و عرفه في وقفاته في طنطا و قلب الدلتا ، و ذلك الذي تكون ثم ثبت فيه مع وصوله القاهرة . و مع كل هذا ذلك الذي جاء مع نوراي ، ذلك الذي اكتسبه الوجدان المصري من هواء الشمال و مما عبر البحر الأبيض المتوسط من وجدان غربي .. امتزج الاثنان في جذور قوية اخترقت الأرض – و الأرض (كما قلنا في الحديث الماضي) كان لابد ان تكون مركز الوجدان المصري ، القاهرة – تلك الجذور هي البداية الجديدة ، هي الغاطس تحت الأرض التي يقف عليها بيت العمدة و نوراي .

لذلك فان البيت في القاهرة كبير و واسع – و كما يُقال بالعامية المصرية شِرح - لانه في ما يُمثِل استيعاب كل ذلك الذي عرفنا مع العمدة و نوراي طيلة الرحلة .

الشجرة ستكبر و ستتفرع . انه السلسال الجديد الذي سيبتدئ باولاد و بنات العمدة و نوراي الذين سيكبرون في بيت القاهرة . هؤلاء هم مستقبل الوجدان الكامل الجديد . هؤلاء هم قوة تجسد ما يحمله الجذر الغاطس تحت الأرض من احتمالات ستظهر بعد سنين على شكل أوراق و ورود و اشواك . هؤلاء هم تجربة مصر – بوجدانها الجديد – في القرن العشرين بما كان فيه من فرص و صراعات ، و من احتمالات و ضربات .

لحظة الوصول في المصراوية هي ثبوت تجربة العمدة و نوراي ، و تحول الوجدان الجديد الذي كونه اتحادهما الى مرجعية أفكار جديدة لها بيت ، لها مكان . مرجعية أصبحت ، بعد الرحلة الطويلة ، أصل و جذر . ذلك هو المعنى الثري في رحلة العمدة و نوراي – في رحلة الوجدان المصري عبر تحولات القرن التاسع عشر و تغيرات بدايات القرن العشرين . ذلك هو المعنى في البداية من أسئلة و من تحديات مفروضة عليه ، من كون المصري ناظر و متلقي لاحداث جسام ، الى تطوره لمتابع و محاول للفهم ، الى مشارك قادر على التغيير و على صياغة ما يريده من واقع لمجتمعه ، و أخيرًا اكتسابه من تلك التجربة الطويلة لوعي اعمق و اوسع غير وجدانه الى ما هو اكبر و ارقى مما كان عليه اول الرحلة . اذا حدث ذلك التغير – و قد حدث في التجربة المصرية الحديثة – فان الوجدان الجديد يُصبح عن حق مرجعية جديدة ، و المرجعية ضروب في دروب التاريخ ، كما هي هداية لسفر في آفاق المستقبل .