اذا كانت المصراوية ، كما رأينا في الأجزاء السابقة من هذه السلسلة ، هي رحلة الوجدان المصري من شمال الصعيد و جنوب الدلتا الى القاهرة ، مركز ذلك الوجدان ، فهذه كانت رحلة العقل . رحلة القلب تبدأ و تنتهي في مكان أخر . من و الى الإسكندرية .

الحب لا يعرف مبررات – و كما قال و عاد نجيب محفوظ في ميرامار (و هي من قصائد العشق في روح الإسكندرية) “لا تلمني” .

و نحن لا نلوم أسامة على عشقه للاسكندرية ، فهو كغيره من مبدعي مصر لم يعرف مبررات لعشقه ، لكنه ادرك بحس الانسان المصري ، قبل ان يدرك بحاسة الفنان ، ان قصة الحب مع مصر تجد اجمل تعبيراتها في الإسكندرية .

هناك في تلك المدينة القديمة حدثت القفزة الأولى في تطور الوجدان المصري . الى هناك ذهب ذلك الوجدان و كانت تلك الرحلة خروجه لأول مرة من وادي النيل . المقصد كان قريبًا من ناحية الجغرافيا ، و لكنه كان شديد البعد من ناحية الوعي . تلك الرحلة الأولى كانت من دنيا النهر و الزرع الى دنيا البحر و التجارة . من الحياة على الوادي الضيق الخصب حيث الفلاح المصري متلقي نور الشمس و طمي الخصب و ماء متدفق قادم من أراضي بعيدة ، و حيث الفلاح المصري زارعًا في الأرض و أخذًا منها ، الى الحياة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط ، ناظرًا الى افق لا ينتهي ، يأتي اليه كل حين و أخر بالجديد مما لا يعرف ، و أهم ما يأتيه أفكار من حوض ذلك البحر الذي شهدت شواطئه أروع تخصيب للفكر الإنساني في التاريخ القديم .

الوجدان المصري وصل بين الوادي و الشاطئ ، لكن بقى للنيل – للصعيد و الدلتا ، و للسيدة الكبيرة الثابتة في التاريخ ، القاهرة – حصة الأسد في تكوين الوعي . لكن هناك على الشاطئ ، رويدًا و على مر عصور ، بدأ البحر ينحت هياكل جديدة لفكرة المصرية . و كان ان من أتوا من حوض المتوسط الواسع نفخوا في النحت روح الحياة فتمثل على الشاطئ خلقًا جديدًا ، فيه مما حمله وجدان مصر من وادي النيل و فيه مما ترسب و نحتته الأمواج المنكسرة على الشاطئ مما اتى من حوض المتوسط الجميل .

و الحقيقة ان رحلة القلب رحلات . كل عشق رحلة . كل حلم برق او انزوى رحلة . و لذلك فان رحلة أسامة أنور عكاشة الأخيرة في الإسكندرية – زيزينيا - بدأت “باسكندرية تاني” ، عود على بدء ، دائرة أخرها يسلم الى أولها ، نهايتها تصل لبدايتها . و الرحلات جميعها داخل الدائرة ، جميعها تفاصيل القصة الأكبر ، رحلة القلب المصري في هوى هواء البحر .

العشق أنواع . عشق اول العمر انفتاح على الدنيا . عشق الشباب اندفاع لأخذ ما في الدنيا . عشق وسط العمر حوار هادئ مع الدنيا (ما أعطت و اخذت ، و ما يظنه العاشق ما زال في جعبتها) . و عشق أواخر العمر ابتسامات من العاشق و من الدنيا (فيها دفء لكن بلا نشوة) .

و هكذا كانت قصص عشق الوجدان المصري الحديث مع الإسكندرية . مصر التي خرجت من القرن التاسع عشر بعد ان عاشت طموحات و انتصارات ثم انكسارات مشروع محمد علي و إبراهيم و إسماعيل باشا ، جاء وجدانها الى الإسكندرية ليرتاح . و لم تكن مصادفة ان القصر الذي اعتزل اليه محمد علي باشا بعد ان ضاع الحلم و انهارت الإمبراطورية المصرية الوليدة (عقب الهزيمة على يد الاسطول البريطاني ثم توقيع معاهدة ١٨٤٠) كان في ضواحي الإسكندرية حيث الباشا (كما تصوره لوحة معبرة للفنان جان فرانسوا بورتيل) ناظرًا الى البحر (و الى ما كان و راح) بسكينة من عرف ثريات الفرح و هاويات الشجن .

ثم كان ان جاء خروج الوجدان المصري الى انطلاقات بدايات القرن العشرين عندما كانت مصر مقصد ثروات و مواهب من تقريبا كل نواحي حوض البحر الأبيض المتوسط . عندها جرى الوجدان المصري الحديث شابًا يريد الدنيا و ما فيها . و وقتها كانت الإسكندرية حديقة ذلك الوجدان حيث زرع فيها اجمل زهوره ، و حيث جن فخرج من جنونه جمال وصل أحيانا الى حدود الكمال . تلك كانت واحدة من اجمل قصص العشق المصري حيث تشكلت في الإسكندرية ابداعات من اجمل ما انتجت الثقافة المصرية في عصرها الليبرالي (من عشرينات القرن العشرين الى بدايات الخمسينات عندما انتهت التعددية السياسية) .

أسامة يدرك كل ذلك . لذلك أسامة هنا مثل لورانس دوريل في رباعية الإسكندرية (و هي ايضًا من قصائد العشق في هوى تلك المدينة) عارفًا ان مفتاح الوجدان المصري في تمشيته على شاطئ البحر هو الحب . و الحب في اوله و اخره امرأة .

لكن تلك اول أسئلة الحب الصعبة للوجدان السارح على الرمال البيضاء . ذلك لان الاسكندريه (كما سنرى في المقال القادم في تلك السلسلة ) امرأة ذات وجوه عدة .