إبراهيم باشا — الجزء ١ — نجح ام فشل
إبراهيم باشا لم يحكم مصر بشكل رسمي ، و لكنه لأكثر من خمسة عشر عامًا كان صاحب نفوذ مساوي تقريبًا لنفوذ والده ، محمد علي باشا . إبراهيم كان سيد كل الحملة المصرية على الشام ، و تلك اخضعت الشام بأكمله لحكم عائلة محمد علي . إبراهيم هو من انهى عمليًا السيادة العثمانية على كل الشام ، و التي و إن عادت بعد هزيمة ابراهيم ، لم تستطع ابدا ان تستعيد سابق قوتها او هيبتها في المنطقة ، و كانت تلك بداية النفوذ الحقيقي لفرنسا و بريطانيا في الشام من جنوبه على الحدود المصرية الى شماله على الحدود التركية . إبراهيم هو من ارسي قواعد السياسة في الشام في ثلاثينات القرن التاسع عشر ، و تلك كانت الأسس التي أهلت لقيام دول جديدة اوضحها لبنان . إبراهيم هو صاحب الفضل ليس فقط في تطوير البنية الأساسية في أغلب الشام ، خاصة في الموانئ و الطرق ، و لكن ايضًا في ادخال نظم إدارة جديدة للصحة و الى حدٍ ما للتعليم – و قد قاد تلك التطورات عدد من الأوروبيون الذين شكلوا نواة إدارة إبراهيم باشا ، بداية في مصر ثم انتقلوا معه الى الشام . بالإضافة الى ذلك ، إبراهيم قضى على نظم تكاد تكون عصابية كانت مسيطرة على مدن كثيرة في الشام ، أهمها دمشق ، و في مكانها أرسى نظم إدارة حديثة منقولة عن ما ارساه محمد علي باشا قبل ذلك في مصر .
الشام كان أرض حملة إبراهيم باشا الكبرى . لكن شهرته التاريخية في التاريخ الغربي نابعة من نجاحه ، قبل ذهابه الى الشام ، في السيطرة على الثورة اليونانية ضد السلطان العثماني . و قد كانت تلك أولى التمردات الخطرة من داخل الدولة العثمانية ، و لذلك جاء نجاح إبراهيم في القضاء على التمرد ، ليس فقط ليثبت قدراته التخطيطية و التنفيذية ، و لكن ليجعله في نظر كثيرين – خاصة داخل بعض مؤسسات الحكم العثماني – قائد يُعتمد عليه ، و ربما (في نظر البعض وقتها) منقذ لفكرة الحكم العثماني الذي بدا وقتها متأرجحًا امام القدرات الأوروبية الحديثة .
لكن المشكلة مع إبراهيم هو ان أشهر ما انجزه ضاع . حكم أسرة محمد علي في الشام سقط سريعًا ، بعد تقريبًا عقد من الزمن . كما ان ذلك السقوط كان بداية ضياع امبراطورية محمد علي و تقليص حكمه داخل مصر و وادي النيل . إبراهيم نجح في الوصول الى داخل الدولة العثمانية عندما فكر هو و محمد علي ان اللحظة التاريخية مواتية لدخول تركيا و إزاحة آل عثمان و تحويل الدولة العثمانية الى أجزاء من ممتلكات اسرة محمد علي . في تلك اللحظة في العقد الرابع من القرن التاسع عشر إبراهيم وصل الى قرب إسطنبول و بدا حُلم محمد علي على وشك التحقق – و قد كاد فعلًا لولا تدخل بريطانيا التي خططت لأرث الدولة العثمانية في اللحظة و الظروف التي تراها هي . و عليه ضاع حلم محمد علي و ضاع نجاح إبراهيم ليس فقط في الوصول الى قلب الدولة العثمانية و لكن ايضًا في كل الشام .
إبراهيم ايضًا خسر النفوذ الذي بناه داخل الشام نفسه . الكيانات السياسية التي خرجت هناك من مشروع محمد علي و إبراهيم ، مثل الشكل الأول للبنان الحديث تحت بشير الشهابي ، سرعان ما ادركت ان حماية إبراهيم قد أصبحت عبئًا و لذلك تحولت بسرعة الى حماة أخرين (أوروبيين) . كما أن البيوتات التجارية الهامة في دمشق و حلب التي ساندت إبراهيم إدراكًا منها وقتها الى انه السيد المنتصر ايضًا سرعان ما ادركت ان قوته ولت ، و لذلك هم ايضًا حولوا ولائهم عنه .
يبقى إبراهيم ، كما يقال بالانجليزية ، صاحب لحظة وعد في التاريخ ، جاءت بومض و سطعت بوهج ، لكنها راحت بسرعة . و عليه فان البعض – و اشهرهم ابنه إسماعيل باشا – نظروا لتجربته على انها سلسلة من الانتصارات الى ان واجهت مصالح الإمبراطورية الحاكمة في العالم وقتها بريطانيا . بينما يرى أخرون ان تجربة إبراهيم في النهاية وصلت الى لا شيء .
تصوري ان إبراهيم يستحق ان ننظر بعمق في ما فعل ، لانه بلا شك القائد الأهم – بالمفهوم الأوسع للقيادة – في كل تاريخ مصر في القرن التاسع عشر . و لعل تمثاله الرائع في ميدان الاوبرا في قلب القاهرة تذكارًا و تذكيرًا بلحظة الوعد التي مثلها .