في اوج توسعها وصلت دولة محمد علي باشا الى شرق تركيا شمالًا و جنوب السودان جنوبًا ، مع كل الشام و المناطق المهمة في الحجاز تحت سلطة الباشا و ابنه إبراهيم .

هذه الرقعة الجغرافية لم تكن فقط كبيرة و لكن ايضًا واصلة الى حدود طبيعية . في الشمال جبال اقصى الشام ، في الجنوب البحيرات عند منابع النيل ، في الشرق الصحراء في الجزيرة العربية ، و في الغرب البحر الأبيض المتوسط . ذلك اعطى تلك الدولة القدرة على الاستمرار لان حمايتها لم تكن قائمة على تعبئة عسكرية دائمة . و الملفت ان القليل الذي نعرفه عن فكر إبراهيم باشا – المسئول العسكري عن تلك الدولة - يشير الى انه كان واعيًا لتلك النقطة .

الدولة ايضًا اعتمدت على خطوط مواصلات قصيرة و مأمونة ، و كان في ذلك ذكاء ، لان إبراهيم باشا لم يعتمد فقط على قرب الشام (او السودان) من مصر ، لكنه في توسعات جيوش ابوه شمالًا و جنوباً و شرقا ، استثمر في تكوين مراكز لوجيستية – و ليس قيادية – للقوات المتقدمة ، مثلما كان الحال مثلًا في بيروت او في حلب اكثر شمالًا .

إبراهيم اعتمد في إدارة تلك المراكز اللوجيستية على قيادات محلية ، مثل بشير الشهابي في جبل لبنان (و قد كان ذلك الاعتماد الأساس الحقيقي لظهوره كأمير للبنان) و على عائلات تجارية مختلفة في حلب (كلها تقريبًا استمرت على قمة الحياة الاقتصادية و الاجتماعية في شمال الشام لعقود بعد ذهاب إبراهيم باشا) . و النقطة هنا ان الإدارات المحلية التي اعتمدها – و اعتمد عليها – إبراهيم ، كانت اختيارات ذكية قادرة على العمل على الأرض .

لكن الاعتماد على إدارات محلية لم يعني فيدرالية في الحكم . على العكس ، إبراهيم اعتمد نظام حكم شديد المركزية في كل أجزاء دولة محمد علي خارج مصر . كان ذلك سواء في نظام و طرق الإدارة او في المتابعة . من المؤكد ان هذا خلق توترات ، لعل أهمها ظهر في دمشق ، المدينة العريقة التي رأت في نظم الإدارة الجديدة و في التحكم المركزي تضييقًا ، و ربما إهانة عند البعض . لكن التحكم المركزي جاء كنتيجة طبيعية لتقدم مصر (وقتها) مقارنة بكل المناطق التي وصلتها دولة محمد علي . بمعنى ان فرض نظم و وسائل إدارة من مصر على المناطق المختلفة كان بسبب صلاح تلك الطرق التي بدأت في مصر مع الحملة الفرنسية و تطورت في العقود الأولى لحكم محمد علي ، بينما كانت تلك المناطق (بما فيها اكثر مدن الشام ثراء) مغيبة و غائبة في تلك الفترة في نهايات النصف الأول من القرن التاسع عشر .

كل ذلك هيأ دولة محمد علي لتكون امبراطورية ، بمفهوم الشكل الجغرافي و انسيابية التواصل و المواصلات بين المناطق المختلفة و مركزية الحكم و الإدارة .

و مع و قبل كل ذلك ، فان اهل المناطق المختلفة التي دخلت في دولة محمد علي نظرت لنفسها على انها أصبحت تحت حكم مركزي اساسه في مصر.

و الأهم ان الدول الكبرى وقتها – و أهمها بريطانيا و لكن ايضًا فرنسا و روسيا و بالطبع الدولة العثمانية التي توسع محمد علي و إبراهيم باشا على حسابها – نظروا لتلك الدولة على انها امبراطورية بالفعل .

نحن تحدثنا من قبل – في سلسلة مقالات سابقة حول محمد علي – عن نقطة الهوية ، و هل كانت دولة الباشا (و من قبل الدولة ، مشروعه) مصري ام عائلي . لكن تلك النقطة ليست محورنا هنا . المهم هنا هو تطور المشروع من دولة متقدمة أصبحت ذات تأثير كبير في محيطها ، الى دولة هي مركز امبراطورية تُسمى باسمها : الإمبراطورية المصرية .

قيام تلك الإمبراطورية احدث تغيرات مهولة في الوضع الاستراتيجي في كل الشرق الأوسط و الشام واصلًا الى الخليج . و كانت تلك التغيرات بداية النهاية لتلك الإمبراطورية ، كما سنرى في المقال القادم . لكن قيام الإمبراطورية نفسه احدث تغيرين مهمين داخل الدولة نفسها ، تغيرين عززا من فكرة ان الدولة تطورت و أصبحت ما هو اكبر .

التطور الأول كان تقليل دولة محمد علي من اعتمادها الاقتصادي على مصر و بداية تنويع مصادرها الى ما هو خارج مصر . تلك كانت المرة الأولى في كل تاريخ مصر منذ سقوطها امام الرومان التي أصبحت مصر فيها متلقي لعائدات و ليس ممول لتكاليف امبراطورية .

التطور الثاني ان الإداريين المصريين الذين بدأوا في الظهور في العقد الثالث و الرابع من القرن التاسع عشر اصبحوا ، مع توسع الدولة ، مديرين او متابعين للإدارة في المناطق التي وصلت اليها الجيوش . و كان ذلك نوع من الترقي لكادرات مصرية .

هذان التطوران دعما من ثبات دولة محمد علي داخل مصر ، كما دعما من فكرة ان امبراطورية الباشا و ابنه (إبراهيم) يمكن نسبتها الى مصر .