المقالات السابقة في هذه السلسة كانت عن نشأة امبراطورية مقرها مصر واصلة الى السودان و الحجاز و أعالي الشام – و عن السؤال حول اذا كانت هذه الإمبراطورية مصرية، ام ثابتة في مصر لكن مُمَثلة لاسرة محمد علي – و قد كانت تلك الأسرة حتى هذه اللحظة في منتصف القرن التاسع عشر تنظر لنفسها على انها عثمانية الهوية و أوروبية الهوى.

سقوط الإمبراطورية غير كل ذلك.

الهزيمة امام بريطانيا، و بدون تدخل فرنسي – حليف محمد علي الأهم – بل و بقدر من التجاهل الفرنسي في اللحظة الحاسمة للصراع مع بريطانيا، اظهر للعائلة ان الهوى الأوروبي له ابعاد ثقافية مفيدة، له ابعاد فنية جميلة، ابعاد تأخذ العائلة و الارستقراطية التي تكونت حولها في مصر الى ترقي و تطور اجتماعي و في أساليب الحياة. لكن ذلك الهوى – و الصداقات التي نشأت نتيجة له – لا تغير المصالح، و الأهم لا تغير من النظرة الاستعلائية المترسخة في الغرب تجاه الشرق (عربيًا كان او عثمانيًا). و عليه، فان الاعتماد على تحالفات قوة شرقية مع قوى غربية في اللحظات التي يتحدى فيها الشرق الغرب واصل بالضرورة الى خيبة أمل.

الهزيمة جاءت في لحظة متقدمة من حياة محمد علي. كما ان إبراهيم مات سريعًا بعد الهزيمة و ضياع الإمبراطورية التي بناها في الشرق و الشمال من مصر. لذلك فان من خلفوهما في الحكم – سواء عباس حلمي الأول او سعيد – ادركا بالاحساس فبل ان يكون بالفهم، ان أمن اسرة محمد علي يكمن في البقاء داخل حدود مصر و في علاقات هادئة مع القوى الغربية الموجودة في الشرق، و أهمها بريطانيا و الى حدٍ ما فرنسا.

في تلك اللحظة تغير نوع الوجود الغربي في مصر – من مستشارين و مساعدين و ضباط أوروبيين حول أسرة محمد علي، الى مراكز قوى غربية ممثلة في سفراء و تجار شديدي النفوذ على الأسرة و في البلد.

أيضًا في تلك اللحظة حدث تغير كبير في علاقة مصر بالدولة العثمانية. بعد تحدي محمد علي و إبراهيم للسلطان العثماني و وصول إبراهيم بجيشه تقريبًا الى قلب الدولة العثمانية و تهديده – بجد – لاسطنبول، هبطت العلاقة الى رجوع مصر لكونها ولاية عثمانية. صحيح ولاية بعيدة عن النفوذ المباشر للسلطان و حاشيته، و صحيح ولاية تحت حكم متوارث لعائلة معينة (عائلة محمد علي)، الا ان شرعية الحكم رجعت الى قبول (او رفض) السلطان بالحاكم (الخديوي) من اسرة محمد علي. كما رجعت علاقات مصر بالخارج الى حدٍ ما الى قدر من التأثير العثماني. و لعله ملفت للنظر انه في تقريبًا ذلك الوقت، بدأت مراسلات الخارجية البريطانيه مع القاهرة تدرج مع مراسلاتها مع إسطنبول. و كان هذا الربط في الفكر البريطاني قائم على ربط حدث (او رجع) في الواقع.

سقوط الإمبراطورية و نهاية مشروع محمد علي و إبراهيم غيرا أيضًا من سيكولوجية الأسرة. بعد ان كان تقريبًا كل الأمراء مندمجين في مشروع بناء الإمبراطورية، سواء في القيادة العسكرية، او في العمل الدبلوماسي، وجدنا بعد منتصف القرن التاسع عشر، خروج كبير لعدد من أهم أفرع أسرة محمد علي من كل العمل السياسي، الى مجالات مختلفة، ابرزها كان في العمل الاجتماعي او الخيري – و قد كان بعضه في مصر و بعضه في انحاء من تركيا.

ذهبت الأسرة الساعية نحو بناء امبراطورية و استقر في الوجدان الحكم العادي المتوارث من جيل الى أخر، ربما يحافظ، لكنه لا يوسع، و لا شك لا يتحدى القوى الكبرى التي شكلت الإطار العام للمنطقة.