“لكن ده بعيد اوي”، كانت اول كلماتها عندما أخبرها زوجها الطبيب الشهير صاحب العيادة في محطة الرمل بأنه سيشتري بيت في العجمي.

الحياة الاجتماعية لتلك العائلة في وسط خمسينات القرن العشرين كانت تدور في قلب الاسكندرية، المنطقة بين الميناء الشرقي و المنتزة و الشواطئ التي ظهرت في بدايات القرن العشرين، مثل بيانكي (نسبة الى عائلة يونانية سُمىَ مؤسسها بملك القطن) او زيزينيا (نسبة الى أسم مملوك يوناني جاء مع ابراهيم باشا - ابن محمد علي - بعد حملته هناك، و قد ترقى مع الأيام الى أن أصبح من أغنى أغنياء المدينة و قنصل لاحدى الدول الاوروبية)، و غيرها من أحياء الاسكندرية التي تخلد اسماءها قصص مهاجرين من انحاء مختلفة في حوض البحر الابيض المتوسط بنوا حياوات غنية على تلك الأرض.

العجمي وقتها - في الخمسينات - بعيد عن قلب الاسكندرية، يكاد يكون سفر - “مشوار” كما حكى الدكتور، في عقود لاحقة، “أبعد بكثير من الموكس” (او المكس، كما عُرِف فيما بعد).

لكن الابتعاد - او الهجرة غربًا كما تحدثنا في المقال السابق من هذه السلسلة - أصبح ضرورة في رأي كثيرين من أعلى الطبقة الوسطى الاسكندرانية.

التغيرات التي لحقت بيوليو ١٩٥٢ حملت نُذُر خطر على كثيرين في الاسكندرية، و قد جاء عدوان ١٩٥٦، بعد تأميم قناة السويس، ليؤكد مخاوف كانت ظاهرة في المدينة. جاليات عديدة بدأت تشعر بضغوط. في البداية برز خروج الفرنسيون، خاصة بعد العدوان. ثم تزايدت هجرة اليهود. ثم بدأ خروج سريع للايطاليين. لكن التغير الحاسم في شكل الاسكندرية الاجتماعي جاء مع الخروج البطئ و لكن الواضح لليونانين.

في عشر سنوات او اكثر قليلًا، من منتصف الخمسينات الى منتصف الستينات، خرج أكثر من ربع مليون “اسكندراني” من أصول اوروبية - بدون حساب الشوام الذي تركوا المدينة في نفس الفترة. النسبة كانت هائلة مقارنة بتعداد المدينة في تلك الفترة. و الأهم ان جزء كبير ممن تركوا الاسكندرية كانوا في قمة و قلب طبقتها الوسطى في النصف الاول من القرن العشرين.

ذلك الخروج أحدث تغير حاسم في اسلوب الحياة. دخل التنوع الاجتماعي في مرحلة احتضار، و في المقابل ظهر فراغ بدأت تملأه اخلاقيات و طرق حياة دلتا النيل - خاصة مع موجات هجرة من الدلتا الى الاسكندرية في الخمسينات و الستينات. في عقدين او ثلاثة تحولت الاسكندرية من المدينة الممثلة بحق لامتزاج ثقافات البحر الابيض المتوسط، و الناظرة و الموصولة باوروبا، الى مدينة مرتبطة بالدلتا تشعبت في شوارعها و ميادينها روح حياة وادي النيل.

الدكتور و السيدة الراقية لم يكن لديهما مشكلة مع ثقافة دلتا النيل، ثقافة المجتمع الفلاحي، و هو من قبل و من بعد قلب وجدان مصر. لكن تلك الثقافة كانت في رأيهما مكون محدود من مكونات الاسكندرية في عصرها الذهبي، مكون يأخذ من مكونات أخرى و يتفاعل معه - و ليس، كما حدث مع نهايات الخمسينات و بدايات الستينات، مكون طاغي على المكونات الأخرى، و فيما بعد شبه وحيد للنسيج الاجتماعي.

لذلك، مع هروب المكونات الأخرى، مع خروجها - بقصص ملأ بالحزن - من الاسكندرية، أصبحت المدينة، في نظر الدكتور و زوجته، مختلفة، مدينة غير الاسكندرية التي عرفوها طيلة حياتهم.

العجمي، ببعده عن التغيرات التي كانت تحدث في الاسكندرية وقتها، بهدوئه و بساحله الخالي وقتها من العمران، بدا مكان يمكن تشكيله كيفما اراد اصحابه الجدد. و بالفعل وقع اختيار السيدة - و هي من عائلة إسكندرانيه قديمة عملت مع مطورين ايطاليين - على قطعة ارض قريبة جدًا من الشاطئ. هناك بنيا فيلا صغيرة محاطة بحديقة اشتهرت فيما بعد باشجار ليمون تناثرت افرعها خارج سور الفيلا.

في الستينات كان العجمي اشبه بكلمة سر يتبادلها من يعرفون المعنى - الهروب بعيدًا عن زحف الثقافة الآتية من الدلتا الى سواحل البحر الابيض المتوسط. لكن مع نهايات السبعينات، كان السر قد ذاع. مئات من نجوم المجتمع وقتها اتوا الى العجمي، ليس هروبًا من سيطرة ثقافة معينة و لكن بحثًا عن خصوصية فقدوها في خضم التزايد الكبير في رواد الاسكندرية في الصيف.

على عكس الساحل الشرقي للاسكندرية و وسط المدينة الذان شهدا لمائة و خمسين سنه (من بدايات حكم أسرة محمد على في اوائل القرن التاسع عشر الى منتصف الخمسينات) نمو و ازدهار المدينة في محيط ازدان بتعامل المكونات الاجتماعية بعضها مع بعض، العجمي بُنىَ على التباعد. فيلات بجانب بعضها يربطها شوارع ضيقة، أغلبها رملي غير مرصوف، بينها محلات صغيرة متخصصة في انواع طعام او مشروبات او ملابس معينة، و اصحابها يعرفون اصحاب الفيلات و اذواقهم.

حتى الخروج في الليل كان مختلف في روحه عن روح الاسكندرية في عصرها الذهبي في تلك المائه و خمسين سنة. في الاسكندرية وقتها كانت المطاعم و القهاوي و البارات كبيرة مفتوحة مطلة على البحر بواجهات عملاقة و حاملة أسماء اصحابها - اليونانيين غالبًا و الايطاليين و الفرنسيين احيانا - و كلها مساحات تلاقي للثقافات المختلفة المتواجدة وقتها في الاسكندرية و المعبرة زمنها عن نسيج المدينة الثري. في العجمي، اماكن الخروج في الليل كانت صغيرة، مغلقة على من يرتادوها باستمرار، شبة مخبأة في شوارع خلفية او جانبية، يعرفها من يعرف الدوائر الاجتماعية التي تتقابل هناك.

كان ذلك طبيعيًا، لان العجمي على عكس قلب الاسكندرية و ساحلها الشرقي في عصر المدينة الذهبي (جاذبين لكل الثقافات) كان ملاذًا لهاربين من ثقافة مكتسحة. لكن، الملاذ، مثلما انه يقدم مهرب، فهو مكان ولادة افكار و طبائع جديدة، هي بالضرورة مضادة لما هربت منه. وهذا بالضبط ما حدث في العجمي - خاصة في التسعينات- كما سنرى في المقال القادم.