الحرب العالمية الثانية فتحت ابواب الاسكندرية امام عامة الناس.

الاسكندرية شهدت عشرات من غارات الجيش الالماني عليها، كما احتشد فيها جزء كبير من القوة البريطانية ليس فقط في مصر و لكن في كل الشرق الأوسط. و كانت العلمين موقع واحدة من أهم معارك الحرب. و قبل و بعد العلمين كانت الاسكندرية واحد من مراكز التجسس الرئيسية في الشرق الاوسط، ليس فقط الالماني و في مقابله البريطاني، و لكن مسرحًا لعمليات معلوماتية واسعة لأغلب أجهزة الأمن الاوروبية وقتها.

كل ذلك أقلق كبرى رؤوس الأموال المصرية، و المال المتراكم بطبعه حذر من التواجد في مناطق صراعات و تقصي معلوماتي. لذلك شهدت فترة الحرب و ما بعدها مباشرة حجم مهول من إخراج للأموال المصرية الى الخارج. (و قد كانت تلك بدايات تعارف كبريات رؤوس الأموال المصرية على كانتونات صغيرة في سويسرا و على امارات معروفة بقواعد مصرفية خاصة مثل ليخشتانشتين). و مع و قبل الاموال المصرية خرجت ثروات اوروبية كانت عاملة في مصر منذ عقود - و بعضها كان قد أصبح مصريًا بفعل الإقامة الطويلة.

لكن الخروج الأكبر كان للاموال اليهودية التي رأت جيوش المانيا النازية على ابواب الاسكندرية. صحيح ان بعض هذه الاموال رجع الى مصر بعد انتصار الحلفاء، لكن أغلب ما قد ذهب بقى في المكامن التي وُضِع فيها، خاصة و ان عمليات نقل الأموال كانت مكلفة.

خروج رؤوس الاموال بدأ تغير بطئ في الاسكندرية - و هي وقتها مركز مهم للرأسمالية التي استوطنت مصر في القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين. العديد من التجارات و الكثير من العقارات بيع الى مصريين لم يكن اغلبهم قبل الحرب في عداد رؤوس الاموال الواضحة في السوق. و ربما الأهم ان اسواق ذات تأثير كبير في الاقتصاد المصري، مثل بورصة القطن، بدأت تفتح بشكل كبير امام متعاملين مصريين.

و الحاصل من كل ذلك كان ان الحياة الاجتماعية في المدينة - و هي بالطبع دائمًا متأثرة بالاقتصاد - بدأت تتغير، سواء الطبقات الرفيعة على قمة المجتمع او الطبقات الأوسع تحتها مباشرة.

كانت الاسكندرية تمر بتغير ديمغرافي بطئ، و لكن حاسم في تكوينها، و عليه في اسلوب حياتها.

و كان التغير يبدو أوضح في الصيف، حيث، مع الوقت، بدأ الموسم الصيفي يبدو أقل تعددًا (مع بداية خروج جاليات مختلفة) و أكثر ضيقًا في شكله الاجتماعي.

كالعادة مع التغير الديمغرافي كان هناك تغير جغرافي. الذي حدث - كما حدث في اماكن مختلفة في العالم - أن مجئ مجموعات اجتماعية كبيرة، عادة من طبقات أقل ماديًا ممن كانوا في المنطقة من قبل، أحدث خروجًا بطيئًا لهؤلاء من الطبقات الأعلى. لاشك كان في الأمر قدر من التعالي الطبقي. لكن - و هذا الأهم - كان ايضا فيه احتكاك جديد وقتها بين قيم و اساليب حياة شديدة الاختلاف. بعضها كان نتيجة مرحلة التخصيب الثقافي الرائع الذي جسدته الاسكندرية في النصف الاول من القرن العشرين (و قد كان ذلك موضوع الجزء الأول من هذه السلسلة) و بعضها كان قادمًا من عمق الريف المصري.

كان يُمكن أن ينتُج من هذا الاحتكاك تجربة اجتماعية رائعة و مفيدة تؤدي الى توسيع دائرة التخصيب الثقافي. لكن الاقتصاد السياسي لمصر في الخمسينات و الستينات لم يسمح لذلك الاحتكاك ان يتطور الى ذلك. و عليه اختارت أغلب المجموعات التي كانت في مراحل سابقة على او قرب القمة أن تبتعد عن الوسط و ان تُقلل الى حد كبير هذا الاحتكاك الاجتماعي.

الخروج هنا كان للأطراف، خاصة الغربية. ذلك ان الاطراف الشرقية - و أهمها المنتزة - و قد كانت من أجمل ممتلكات العائلة المالكة - أُخذت من طرف القوى الجديدة في البلد. و مع الوقت تكونت حول القوى الجديدة حاشيتها التي رأت في ضواحي المنتزة و في أماكن مختلفة من شرق الاسكندرية مكانًا لها في الصيف. لذلك كان خروج من كانوا قديمًا على او قرب القمة الاجتماعية ناحية الغرب، بعيدًا عن التغيرات التي كانت تحدث في الوسط و الشرق.

كانت تلك بداية قصة العجمي، المصيف الأكثر جاذبية في تاريخ قصة الحب الدائمة بين المخملية المصرية و البحر الابيض المتوسط (و العجمي موضوعنا في المقال القادم لهذه السلسلة).