الاسكندرية في تاريخ مصر الحديثة هي الفتاة الجميلة مقارنة بالسيدة الراقية، القاهرة. منذ قرون عديدة، صلاح الدين الأيوبي في خطاب لوزيره الفاضل تحدث عن رأيه في دمشق و القاهرة، و كان أن رأي صلاح الدين فيه من عشق دمشق ما فيه من فهم لرونق و ثقل القاهرة.

لكثيرين، الاسكندرية كانت مثلما كانت دمشق لصلاح الدين. في وجدان هؤلاء، الاسكندرية مسرة القلب، فرحة العين، و احساس بالانطلاق و بشباب القلب و بحب الحياة.

نجيب محفوظ وضع ذلك الاحساس على لسان شخصية في ميرامار - و هي رواية تكاد تكون الاسكندرية شخصية كاملة فيها - عندما جعله يجري بسيارته، بسرعة جنونية، الهواء يضرب وجهه فيحيي روحه، و معها شعوره بضرورة الحياة، ضرورة التجربة، و صوته يصرخ مع الريح “لا تلمني”، والدلالة انه ذاهب الى الغوص في الحياة حتى النهم.

هذا فعل روح الاسكندرية. انه شط الهوى كما غنت له فيروز - و الهوى حب و عشق كما هو غنوة و غنج و غواية.

محمد علي باشا كان أول من أدخل الاسكندرية في مصر الحديثة كعاصمة الصيف، عاصمة وقت الراحة. الباشا، حتى في عز فترات توسع دولته - مثلًا وقت فتوحات ابنه، إبراهيم باشا في الشام - كان يقضي شهور متصلة في الاسكندرية.

لكن ذوق محمد علي أختلف مع الزمن. في البداية كان دائم التواجد في قلب المدينة. و لعله كان في هاجسه محاولات قد تحدث من بقايا من المماليك وبعض من الأعيان أن يستغل الاسترخاء في الصيف لإحداث عمل ضده. لكن مع مرور السنوات و ترسخ دولته، بدأ الباشا يبتعد عن قلب المدينة، تاركًا اياه لمن جاءوا من القاهرة من الأغنياء و الوجهاء و الطالبين ليكونوا بالقرب من البلاط. اما هو بدأ يخرج الى الأطراف، و هناك بدأ يبني قصور ماثلة على شاطئ البحر الابيض المتوسط، و ممثلة لعظيم ملكه، ذلك الذي قلب تاريخ مصر و تاريخ الاسكندرية.

قصر رأس التين هو أهم تلك القصور، و قد كان أن تطورت مكانة رأس التين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر فأصبح المقر الرسميالصيفي للعائلة الحاكمة. و لعل ذلك ما جعل بعض حكام الأسرة يروه قصرًا رسميًا أكثر من اللازم، فكان أن أوجد بعضهم بيوت و قصور أخرى في أطراف أخرى من الاسكندرية، كان اهمها، و لعله أجملها، ذلك في المنتزه.

مع مرور السنوات، و كالعادة في مصر الملكية، بدأ الأغنياء في تقليد الأرستقراطية، و عليه بدأ زحف من كبرى عائلات القاهرة و الدلتا و الصعيد علىالاسكندرية.

الاسكندرية نفسها كانت وقتها - في نهايات القرن التاسع عشر و بدايات القرن العشرين - بدأت تأخذ شكل جديد. تغييرات الخديوى إسماعيل - باني مصر الحديثة - نقلت الاسكندرية الى مدينة حديثة على الشكل الاوروبي و بنفس درجة الخدمات التي كانت وقتها موجودة في عدد من كبرياتالعواصم الاوروبية. ثم جاءت الحرب العالمية الاولى و ما احدثته من دمار و فقر و في اماكن مختلفة، مجاعات، فإذا مصر - و هي وقتها بلد مستقر،غني، ذو تعداد سكاني معقول - أصبحت وجهة مجموعات كبيرة من أفضل العقول، خاصة في دنيا التجارة و المال. و كان أن فضل كثيرون من هؤلاء،خاصة من جاءوا من دول البحر الابيض المتوسط، أن يستوطنوا الاسكندرية، و قد رأوا في شاطئها صلة تربطهم بشواطئ تركوها.

اسكندرية النصف الاول من القرن العشرين كانت، بلا مبالغة، من آيات الجمال الاجتماعي في العالم. ذلك لانها أصبحت على مر عدد من العقود موطن و بيت مجموعات من اكبر و أنجح الجاليات اليونانيه و الايطالية و الأرمنية و المالطية و الشامية و اليهودية، بالاضافة الى جاليات أصغر من وسط اوروبا و البلقان. هذا التنوع في إطار فيه تسامح و ذكاء الإدراك بقيمة الاختلاف، خلق هارمونيه و تناغم و ثراء فكري و ثقافي ندُر وجودهم فيالعالم في ذلك الوقت.

و مع هذا كان هناك ثراء مادي نتيجة ان نوع الاقتصاد السياسي في مصر وقتها سمح لتلك الجاليات - و للطبقات الوسطى و العليا المصرية - أن تبدع و تبتكر و تخلق نجاحات تجارية و مالية، أصبح العديد منها فيما بعد - بعد خروجها من مصر - شركات عالمية عملاقة (و كان أن البذرة التي زُرعت في مصر حُصدت في الخارج).

كان طبيعيًا ان الثراء المادي، في إطار رُقي و تحضر و ثقافة المدنية المستنيرة ان يكون جاذبًا لأخرين. و بالفعل نظرت مجموعات كبيرة من المصريين ليس فقط من الطبقات العليا او أعلى الطبقة الوسطى - و لكن من النواحي البعيدة في الدلتا و الصعيد، الى آيات الجمال في مصر في ذلك العصر، و قد رأت في الكثير منها ما ارادت أن تتعلمه و تحصله، كما رأت في الكثير من أساليب الحياة فيها ما ارادت ان تتبعه، او على الأقل، ما ارادت أن تتعرف عليه.

الاسكندرية كانت موطن أروع آيات جمال ذلك العصر. و لذلك كانت رمز ذلك التخصيب الثقافي الاجتماعي. و عليه كان من الطبيعي ان امتزاج الثراء و التنوع و الرغبة في التعبير عن الجمال، و الرغبة في التعلم و التطور، في الاسكندرية في ذلك الوقت، أن عبر عن نفسه في نواحي مختلفة منالحياة، سواء في المعمار (بيوت و فيلات و أحيانًا قصور) او - و هذا الأهم - في أسلوب حياة، أخذ من تراث مصر الكثير، و أضاف الي وجدانها ونظرتها لنفسها الكثير - و هذا حديث المقال القادم في هذه السلسلة.