العجمي كان بداية الهروب من الإسكندرية، كان أول الخروج كما تحدثنا في المقال السابق من هذه السلسلة. و الهروب رحلة في البعد - و قد كان ان من ذهبوا في بدايات الهروب الى العجمي (في الخمسينات و الستينات)، ثم من لحقوا بهم (في السبعينات و الثمانينات) بدأوا في بناء مسافات أبعد بينهم و بين من يريدون الهروب منهم.

بداية المسافات كانت في الحياة وراء اسوار ارتفعت و عليها تناثرت فروع اشجار عالية تُخفي و تُبعد. البداية - ايضًا كما تحدثنا في المقال السابق - كانت في حياة اجتماعية في العجمي ارادها اهلها مغلقة عليهم.

مع الوقت أصبح العجمي جميلًا في خصوصيته - قهوة الصباح مع خلفية صوت ارتطام الامواج على الشاطئ، إفطار يأتي الى المنزل من محلين لا ثالث لهما لمن كان يعرف العجمي وقتها. مع الظهر تمشية قصيرة الى شاطئ سماه من عرفوه بالجنة، و مع الغروب العودة الى الفيلات القابعة وراء الاسوار للاستعداد للخروج الى سهرات، عادة في اربعة او خمسة اماكن اصبحت مع السنين مثل غرف استقبال في بعض فيلات العجمي القديمة - اماكن مألوفة من الأثاث الى قوائم الطعام الى أسماء و وجوه من يقومون بالخدمة.

شاطئ الجنة كان محور العجمي و قلبه. قصصه بدأت بحكاية حب ملأ بالحزن لاثنين من اشهر نجوم الفن المصريين في الستينات و السبعينات، و استمرت القصص في الثمانينات و التسعينات مرآة للحياة الخاصة لشريحة رفيعة على قمة المجتمع المصري وقتها، مجموعات لم تكن تريد التباهي بكونها داخل إطار العجمي. على العكس، كان معيار الانتماء الى عالم العجمي هو احترام انغلاق مجتمعه على اهله. كما يقول المثل الامريكي (في تحوير مصري): وقتها كان ما يحدث في العجمي يبقى في العجمي.

شاطئ الجنة كان جميلًا في خصوصيته أكثر منه في ما اعطته الطبيعة من ملامح. لكنه في هدوءه في الصباح، في ديناميكيته في وسط النهار، و في جلسات الحديث الطويلة تحت شمسياته، و في التمشيات عليه عند الغروب، كان بالفعل جنة مغلقة على من فيها. الجنة هنا حوت طاقة استمتاع بالطبيعة، طاقة هادئة، متأملة، متماشية مع الاسترخاء تحت شمس الصباح و مع هدوء النظر بامتنان الى الجمال في شمس المغيب. لكن مع الاسترخاء شاطئ الجنة ايضًا حوى طاقة تعامل اجتماعي ملأ بالرغبة في عيش الحياة حتى الامتلاء، حتى الفيض.

لكن كان لنجاح و خصوصية العجمي ثمن. الوجود في العجمي كان استمرارًا للاتصال بالسيد العظيم في التاريخ القديم، البحر الابيض المتوسط. لكن الابتعاد في العجمي كان الخروج الأول من قلب الاسكندرية، كان بداية هجر أعلى المجتمع المصري للسيدة التي كانت لقرون جميلة جميلات ذلك البحر، الاسكندرية.

ذلك قطع حبل الوصل بين قمة المجتمع المصري و بين الاسكندرية. و قطع الوصل انهاءٌ للوصال. و كما يقول المثل المصري، البعيد عن العين، بعيد عن القلب. و قد كان ان تركت الارستقراطية المصرية الباقية من ايام الملكية، و من تبعها من الرأسمالية التي ظهرت في السبعينات و الثمانينات، الاسكندرية. تركوها لأول مرة منذ بدايات مصر الحديثة مع بزوغ مشروع محمد علي. تلك كانت لحظة تغير شديدة الاهمية في مسار الاسكندرية في تاريخ مصر الحديث.

و كانت تلك اللحظة أيضًا تغير في مسار علاقة أعلى المجتمع المصري بفكرة مصر و بتصويرات (و التصورات عن) هويتها. البعد عن الاسكندرية أبعد تلك الطبقة عن تراث التنوع و عن النظر عن حق للشواطئ الشمالية للبحر الابيض المتوسط و عن العبق الباقي من لحظة الليبرالية القصيرة في تاريخ مصر الحديث.