السؤال الأهم في السياسة البريطانية هذا الخريف
بريطانيا بلا حكومة حقيقية منذ منتصف الصيف، بعد استقالة رئيس الوزراء بوريس جونسون. أسابيع الصيف الماضية شهدت حوارات صاخبة ومناظرات داخل حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا حول من سيخلف جونسون. و قد كان ذلك مشكلة، أولآ لان بريطانيا - و كل اوروبا - في بدايات أزمة اقتصادية هي الأعنف منذ اربعين سنة، و لان خليفة بوريس جونسون في قيادة حزب المحافظين و عليه في رئاسة الحكومة شبه مؤكد، و هي ليز تراس، وزيرة الخارجية.
السؤال إذن هو: ما هو شكل حكومة تراس، و ما هي توجهات تلك الحكومة ؟
اتجاهات فكر تراس يمينية الى حد بعيد، خاصة في النواحي الاقتصادية. كما ان حكومتها غالبًا ستتشكل من التيارات الأشد يمينية اقتصاديًا داخلالحزب، الذي هو بطبيعته على اليمين من السياسة البريطانية. الغالب إذن - اذا نظرنا بشكل تقليدي - اننا سنرى حكومة تميل الى خفض الضرائب، الى تقليل المساعدات المالية الى الطبقات المحتاجة اقتصاديًا في بريطانيا، و الى حكومة لا تريد بنك انجلترا (البنك المركزي) ان يرفع فوائد الإقراض.
لكننا الآن في لحظة غير تقليدية. و ربما نرى سياسات حكومية مختلفة، سياسات تحاول مزج الاتجاه اليميني، و هو ضروري لليز تراس، مع ضرورات سياسية تفرضها الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
اولًا، لماذا الاتجاه اليميني ضروري لتراس؟ لانها سياسية ليس لها خلفية شديدة القوة داخل الحزب، و عليه لابد لها ان تلتزم بالتوجهات التي سيتم عليها اختيارها كقائدة للحزب و عليه لرئاسة الوزراء. و أيضًا، لان تراس غالبًا ستضطر ان تذهب الى انتخابات لان الاوضاع الاقتصادية و القرارات التي ستفرضها ستحتاج الى تفويض انتخابي جديد، و ليس فقط ذلك الذي اعطاه الناس لحزب المحافظين في الانتخابات السابقة. و الذهاب الى انتخابات يجعل تراس محتاجة الى الدعم الكامل من حزبها.
لكن هنا تأتي المعضلة التي ستواجهها تراس و حكومتها، و هي ان الأزمة الاقتصادية - خاصة التضخم - غالبًا شديدة الى درجة ان مجموعات كبيرة من المجتمع البريطانى، بما في ذلك في انجلترا، و هي المكون الأغنى في بريطانيا كما هي عقر دار حزب المحافظين، ستكون في احتياج شديد لمساعدات مالية من الدولة. و التغاضي عن ذلك لاشك سيكون له تكلفة اجتماعية، و بالطبع انتخابية، عالية.
هناك أيضًا احتمالية مشاكل اجتماعية تمتحن الحكومة. اذا تصورنا ان التضخم سيستمر في الارتفاع بنفس وتيرته في الشهرين الماضيين، فهناك سيناريوهات رفض مجموعات واسعة من الناس ان تدفع فواتير الكهرباء و الغاز، غير احتماليات مظاهرات ضد سياسات الحكومة الاقتصادية.
كثيرون يستبعدون تلك السيناريوهات عن بريطانيا، و هي بالطبع من هي من ناحية الثراء، كما ان ثقافتها السياسية قائمة على احترام القانون الىأقصى درجة، و على - في رأيي - التطبيق الارقى للديموقراطية في كل العالم.
لكن هناك احتمال ان الأزمة البادية و البادئة الآن ستكون من الشدة ان تُغير من قواعد التعامل السياسي للمجتمع البريطانى، خاصة و أنالصعوبات الظاهرة أعقد و غالبًا أشد وطاة من أي شئ مر به ذلك المجتمع في الاربعين سنة الماضية.
هناك تصور أخر - و هو ان ليز تراس و حكومتها سيتعاملون مع الوضع البادئ الآن على انه شديد الصعوبة، و عليه يتطلب سياسات مختلفة غيرخاضعة للتوجهات السياسية التقليدية للحزب، سياسات تمزج بين المطلوب ماليًا (مساعدات للطبقات الأكثر احتياجًا) و بين الممكن ضرائبيًا (تنويعات جديدة على أسس التأثر بالمشاكل الحالية) و بين افكار غير تقليدية في السياسة البريطانية (مثلًا تفرق بين المناطق المختلفة للمملكة المتحدة كما تفرق حتى في تطبيق السياسات داخل مكان واحد مثل انجلترا، و هناك اجزاء منها من الاماكن الأكثر ثراء في العالم، و مناطق بعيدة تمامًا عن الثراء).
المشكلة هنا ان الحكومة في تلك الحالة ستواجه تحديات كبيرة من داخل الحزب، غالبًا ستُفكك الحكومة، و ذلك خطر على الحزب قبل الانتخابات، خاصة و ان الأوضاع الاقتصادية لاشك ستُعطي حزب العمال المعارض و حزب الليبراليين الديمقراطيين (الحزب الثالث في السياسة البريطانيه) قوة دفع.
بالاضافة الى ذلك، بريطانيا تدخل الأزمة الحالية و هي ليست فقط خارج الاتحاد الاوروبي و لكنها أيضًا في منافسة معه على استثمارات دولية تخرج من أغلب الأسواق العالمية مفضلة الالتجاء الى السوق الأكبر و الأعمق: الولايات المتحدة الامريكيه. بالطبع لبريطانيا وضع خاص في الاقتصادالعالمي، حيث انها الملجأ الثاني من ناحية الأهمية لأكبر رؤوس الأموال في العالم، كما انها رائدة في صناعات شديدة الأهمية خاصة في دنيا التكنولوجيا الحديثة. لكن بالرغم من ذلك، بريطانيا ستكون حذرة في اتجاه سياساتها الاقتصادية لانها لا تريد ان تفقد سيولة مالية يقف عليها جزء كبير من الاقتصاد البريطاني.
أخيرًا هناك مشكلة في عمق السياسة البريطانية أصبحت ظاهرة بشكل كبير بعد سنوات حكم بوريس جونسون، و هي ان هناك اهتراء في مؤسسات كانت لقرون أعمدة المجتمع البريطاني و خاصة الانجليزي. ذلك الاهتراء - بغض النظر عن اسبابه - عبر عن نفسه من خلال ضعف كبير في اساليب الاداء السياسي داخل تلك المؤسسات. و الآن فإن مظاهر من ذلك الضعف و من الاهتراء الذي خلقه ظاهرة بوضوح امام المجتمع البريطاني. نتيجة ذلك غالبًا ستكون تغيرات كبيرة داخل عدد من تلك المؤسسات.
بريطانيا لديها من العمق و الرقي و الثراء ما سيجعلها تلد أفكارًا جديدة بتطبيقات ناجحة تعالج هذا الاهتراء و تُخرجها من الوضع الحالي. لكن الوقت سيكون مشكلة. ليست هناك حلول سحرية لاسباب الاهتراء، و بعضها نابع من تراكمات لظواهر اجتماعية عمرها عقود. و لذلك فان بريطانيا وحكومتها القادمة ستواجه اسئلة صعبة حول سياساتها - و حول ردود الفعل تجاه تلك السياسات - بينما المجتمع نفسه يرى امام عينه مظاهر اهتراء لم يعرفه في بلده في تاريخه المعاصر، و غالبًا سيتعامل مع تلك المظاهر بمحاولات تغيير عميقة - و بعض التعامل سيكون فيه رفض و حسم، و احيانًا في الرفض و الحسم حدة .