طريق الشاي
مقال التأبين في مجلة الإيكونوميست من أبوابها المميزة .. كل أسبوع تختار المجلة شخص توفي في الأسبوع الماضي لتكتب عنه .. هناك أشخاص تاريخها يفرضها : سياسيين كبار او رجال أعمال كونوا إمبراطوريات صناعية او تجارية او فنانين تميزوا جدًا في أجيالهم .. لكن احيانًا الأختيار يقع على شخصيات مثلت أشياء ليست بالضرورة جاذبة للأهتمام او للأعين ، لكنها ذات مكانة في مجتمعاتها .
من أسابيع قليلة وقع إختيار الإيكونوميست على “ سين جينشيتسو “ ، و الرجل معروف للمهتمين بتاريخ و ثقافة اليابان في الثمانين عامًا الماضية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية .
“سين جينشيتسو “ كان من مجموعة الطيارين الذين دُرِبوا للقيام بعمليات الكاميكازي ، و هي طلعات جوية يابانية هدفت إلى ضرب أهداف ، كانت في أغلب الأحوال أمريكية ، بطائرات حربية تهبط و تنفجر في أهدافها : عمليات إنتحارية يخرج الطيار الحربي فيها ذاهبًا لتدمير الهدف الموضوع له و هو يعلم ان نجاح العملية معناه موته .. تجربة طياري الكاميكازي من أكثر ما لفت متابعي اليابان في سنوات ما بعد الحرب ، ذلك أن التجربة كانت شديدة النجاح في حجم المشاركين فيها و في درجات التنفيذ ، بمعنى ان الأرشيفات لا تكاد تذكر حالات رفض او تمرد او هروب او تراجع عند التنفيذ .. و لذلك فقد كان جنرال ماكارثر - القائد الأمريكي الأشهر في ساحات الحرب العالمية الثانية في آسيا و الذي أصبح الحاكم الأمريكي العام لليابان بعد الحرب - شديد الأهتمام بفهم تلك التجربة بشكل جاد ، و بالفعل تشكلت مجموعات لدراسة التجربة .
“سين جينشيتسو “ لم يتراجع عند التنفيذ. كل ما في الأمر انه لم يتواجد في قاعدته وقت خروج الطلعة التي أُمر أن يكون فيها .. و كانت تلك من أواخر الطلعات حيث تطورت الأمور بضرب الولايات المتحدة الأمريكية لليابان بقنبلتين نوويتين أجبرتا القيادة اليابانية على الاستسلام .. لكن إذا كانت تجربة طياري الكاميكازي أثناء الحرب مما أثار إهتمام متابعي اليابان و مُحاولي فهمها ، فإن تجربة المجتمع الياباني بعد الحرب كانت ، لكثيرين ، شديدة الجاذبية و داعية لفهم يتعدى المظاهر .
السبب الرئيسي ان درجة التغير التي حدثت في الوجدان الأعم لليابان كانت كبيرة بدرجة أثارت دهشة كل الدارسين ، و أهمهم من الأمريكيين الذي - تقريبًا - حكموا اليابان بعد الحرب .. المجتمع الذي أنغمس إلى درجة عالية جدًا في مشروع إمبراطوري عسكري استطاع به و من خلاله ان يُسيطر على تقريبا كل شمال شرق آسيا ، و الذي جند و وضع تحت النار عشرات الملايين من شبابه ، و الذي أظهر قدرات غريبة على التضحية و استعداد (أيضًا غريب) للموت في سبيل تلك الامبراطورية ، تحول بسرعة كبيرة بعد انتهاء الحرب إلى وجدان شديد البعد عن فكرة الحرب .
بعض متابعي اليابان - و الكثير منهم قد وقعوا بسرعة في حب ثقافة ذلك البلد - عزوا ذلك التغير السريع الى قوة و عنف تجربة الضرب بسلاح نووي .. ربما .. هناك عدد من الدراسات الجادة حول تأثير تلك الضربة على فكر القيادات اليابانية ، و هناك (و لعل ذلك أهم) تصويرات درامية تُظهر - بالطريقة اليابانية الهادئة - كيف حولت تلك الضربة الوجدان الياباني الأعم إلى حالة من القبول بالكثير و الكثير. هناك آراء أخرى ، منها أن تجربة صنع و توسيع الإمبراطورية اليابانية كانت خروجًا على التقليد السائد في الفكر الياباني طيلة تاريخه الطويل ، و الذي كان في الغالبيه الساحقة من فتراته التاريخية شديد الميل الى الإنعزال وراء البحار داخل جزره ، مطورًا من ثقافته ، حتى و إن كان الكثير من مكوناتها جاءت من خارج الجزر.
أي كانت التفسيرات ، و هي غالبًا مزيجًا من أسباب متعددة ، فإن ذلك القبول بهزيمة الامبراطورية و بأن تلك الهزيمة داعية الى تغير كامل في الفكر و الوجدان اليابانيين كانا لاشك من تداعيات فكرة الاستسلام ، و الاستسلام هنا لم يكن فقط في إطار عسكري قبلت فيه اليابان بانتهاء الحرب و بهزيمتها و بالاحتلال الأمريكي لسنوات مباشرة بعد ١٩٤٥ ، و لكن أيضًا الاستسلام في إطار أوسع : إطار فهم و استوعب و قبل ، عقلًا و وجدانًا ، ان مشروعه القومي في العقود قبل الحرب ، و في سنوات الحرب ، قد انتهى بهزيمة من غير الممكن تعديها ، هزيمة تفرض تغير كامل في أهداف و طرق البلد السياسية و الاقتصادية ، و الأهم تفرض تغير كامل في رؤية المجتمع لنفسه .
من تلك الزاوية كانت تجربة “سين جينشيتسو” لافتة للنظر. لأن ذلك المقاتل تحول من فكرة الصراع إلى ضرورة السلام ، و السلام هنا أوسع من أي فهم سياسي .. السلام هنا داخلي ، يُدخَل إلى العقل و الوجدان من خلال تعمق في النفس و هارمونية مع ما يحيط بالإنسان و من خلال احترام شديد للطبيعة و إدراك أننا أجزاء منها و مستقبلين لخيرها . فكرة الخير هنا كانت حاكمة في ذلك الفهم ، و الخير هنا ليس أعمال لأخرين ، و لكنها أعمال من الإنسان لنفسه ، أعمال و أفكار تأخذ الإنسان من طريق عنف فكري و حياتي الى سلام داخلي ، و السلام الداخلي ، إحلال الخير داخل الإنسان ، طريق واسع إلى سلام مع الأخرين ، و إلى خير أكبر مِن مَن حل فيه الخير لمن حوّله.
“سين جينشيستو” أختار ان يرجع إلى واحد من أهم سبل الراحة و السلام في الثقافة اليابانية : ثقافة الشاي هناك ، ليُبدع فيها و ليُحافظ عليها ، و لتكون من خلاله طريق لهارمونيه يوسع حلولها داخله ويحاول نشرها في محيطه.
و قد نجح .. “سين جينشيستو” أصبح ممن يطلق عليهم في اليابان ثروات قومية . الرجل حافظ بشكل كامل و بدون أي درجات من الاستسهال ، على موروثات ثقافة عمل و تقديم الشاي على الطريقة اليابانية - و في تلك الطريقة ليس فقط تفاصيل كثيرة و لكن أيضًا معاني مهمة تتمثل في تقاليد قديمة .. و لمن جرب ، و عقله متفتح ، فإن بعض تلك المعاني تتفتح امام الطالب و هو (او هي) يرتشف ذلك الشاي الأخضر الدافئ في أكواب داكنة صغيرة محاط بديكورات اليابان التقليدية و بأصداء موسيقى أقرب إلى محاكاة لأصوات من الطبيعة عنها الى موسيقى مختلقة من خيال بشري.
كثيرون جاءوا اليه ليجلسوا في صمت و يُجربوا طريقته في عمل و تقديم الشاي .. الطريقة قديمة ، صحيح .. و هو لا يُبدع جديدًا ، فقط يُحافظ على القديم .. لكن هناك إبداع في الحفاظ على المتوارث .. و مع سنوات من الخبرة ، يمتزج الكثير المتوارث بالقليل المُضاف و يتمثلا في الرجل المسن - الذي كان ، منذ عقود ، مقاتل شديد تدرب على تفجير طائرته في أهداف بعيدة ليمحوها و ليموت معها - و الذي أخذه طريق الشاي لينعزل في بيت صغير، قديم، مفتوح ، يقدم فيه شايه الأخضر ليس فقط بهدوء و لكن بسكون ، لمن أرادوا أن يُجربوا طريق الشاي.